جدل وتحقيقات نُشر

بعد تراجع الأسواق..هل يكمن حل كل مشاكل العالم في إحالة النقود العينية للتقاعد؟

أرقام - قبل نهاية أغسطس/آب نشرت "فاينانشال تايمز" مقالا مثيرا للجدل ضمن ما يمكن وصفه بـ"الحرب على الكاش" يدعو إلى إلغاء إصدار النقود العينية لمنح الأموال الرقمية والتعاملات المالية الإلكترونية صفة بسط نفوذ غير محدودة على كافة التعاملات.

الفكرة بذاتها ليست جديدة، وطرحها الاقتصادي السابق لدى بنك إنجلترا "جيم ليفس" في مقال نشرته صحيفة "التليجراف" في مايو/آيار من العام الحالي، عندما أشار إلى مناقشة مشروع قانون في الدنمارك يقضي بإلغاء التعاملات النقدية العينية.

هذا التوجه يعني إعطاء البنوك المركزية أو بالأحرى الحكومات أداة غاية في القوة لمحاربة فترات الكساد الاقتصادي، والسيطرة في المقابل على عرض النقود والتضخم مع وجود "ازدهار" اقتصادي كبير قد يخرج عن نطاق السيطرة.

إنها وسيلة جيدة للسيطرة على تكاليف إدارية صارت الدولة في غنى عنها، خصوصا فيما يتعلق بضرورة وجود حماية كافية لنقل الأموال من مكان لآخر، أو هكذا تذرعوا بتلك الحجة لإيداع النقود متاحف التاريخ.

تطور فرضه التقدم التقني

وقد تمثل الخطوة التطور الذي يفرض نفسه على أساليب المعيشة البشرية وطريقة تعاملهم، لكنه يبدو مخيفا عند النظر من زاوية مختلفة تعني السيطرة تماما من قبل البنوك على ما بحوزتك، فأنت لا تملك سوى مسار محدد للسير خلاله و"ضغطة زر" كافية لمعرفة كافة تعاملاتك وتحركاتك.

ويبدو أن بعض الاقتصاديين وجدوا في هذه الطريقة "حلا سحريا" للسيطرة على تحرك "حشود الجماهير" الغاضبة إذا تدنت معدلات الفائدة دون الصفر، حيث لا مبرر هناك للإبقاء على الأموال بحوزة البنوك.

هذه النقطة تحديدا باتت تقلق بعض الاقتصاديين المنحازين للفكرة، ولهذا ليس غريبا أن تطرح فكرة القانون أولا في دول إسكندنافية حيث معدل الفائدة دون الصفر، وقد استنفذ صندوق أفكار الحكومة كل الوسائل تقريبا للسيطرة على ضعف النمو أو انعدامه.

من الذي طرح الفكرة أولا؟

وتعد هذه الدعوات صدى لما طالب به كبير الاقتصاديين السابق لدى صندوق النقد الدولي "كينيث روجوف" الذي دعا إلى ضرورة إيقاف إصدار والتعامل بالعملات الورقية من فئة 200 يورو وكذلك 500 يورو، كما ذكر "بول واطسون" في مقال نشره على موقع "Infowars.com".

وكان "روجوف" قد حضر اجتماعا في وقت سابق هذا العام مع مملثين للبنك الاحتياطي الفيدرالي، المركزي الأوروبي، مع آخرين عن مصارف دنماركية وسويسرية، حيث كانت مسألة حظر التعامل بالعملات النقدية العينية على قمة أجندة المناقشات.

وساق "روجوف" حججاً تتعلق بالسيطرة على التهرب الضريبي، ووقف التعاملات غير المشروعة مع إلغاء التعامل بالأموال العينية، فضلا عن السيطرة أو بالأحرى منع المودعين من سحب أموالهم عندما تقترب الفائدة أو تكون دون الصفر.

وهنا يؤكد "جيم ليفس" أن المجتمع "غير النقدي" سوف ينشأ عندما يجبر كل شخص على استخدام التعاملات الإلكترونية والتي ستكون تحت رقابة الحكومة، وهو ما يعني قدرة أكبر على دعم الاقتصاد في أي وقت.

حل منطقي أم مزيد من سيطرة الحكومات؟

ربما إعادة طرح "فاينانشال تايمز" الموضوع مجددا، أو تأكيد انضامها للواء المناهض للشكل التقليدي للتعاملات النقدية دليل على فشل البنوك المركزية لإنعاش اقتصاد العالم بعد ضخ ما يناهز 11 تريليون دولار في شرايينه.

ليس الأمر بسبب فساد أو توصيف نماذج اقتصادية لا تتمتع بالكفاءة اللازمة، لكن لأن المستهلكين غير راغبين في الإنفاق، وهذا منطقي تماما مع ضعف النمو وتباطؤ الطلب، حيث ينتظرون فرصا سانحة قادمة.

لكن الاقتصاديين يرون أن الحل يكمن في معاقبة هؤلاء المستهلكين ومنعهم من الحصول على أموال سائلة والاقتصار على التعاملات الإلكترونية ليكونوا في النهاية مجبرين على الإنفاق.

إنه نفس الهدف الذي كانت تصبو إليه عمليات "التيسير الكمي" وإن اختلفت الطريقة، فالمركزي الأمريكي لم يكن يطبع دولارات فعليا، إنما كان يشتري السندات مقابل أموال غير مرئية إطلاقا.

لم يقل المركزي الأمريكي هذا صراحة لكن عمد إليه بوسيلته الخاصة، حيث كرس جميع جهوده منذ أزمة عام 2008 لإجبار المستهلكين -بشكل ربما يبدو أكثر طواعية -بعيدا عن الأموال العينية ودفعهم نحو الأصول التي تحمل المخاطر.

وهذا ربما يفسر الصعود المتوالي لسوق الأسهم الأمريكي منذ قاع 2009 وتحقيق قمم تاريخية متتالية بقوة خلال العام الماضي وأوائل العام الحالي، حيث بدا هاجس تحويل المودعين لجزء من ثرواتهم إلى أموال سائلة كابوسا يهدد النظام المالي بأكمله مع قرب الفائدة من الصفر.

النموذج الأمريكي كمثال

ووفقا لبيانات نشرها موقع "زيرو هيدج" فإن كمية الأموال العينية السائلة في النظام المالي الأمريكي تتجاوز قليلا 1.36 تريليون دولار، وبتضمين الأموال "الرقمية" في الحسابات البنكية فإن الرقم يصل إلى 10 تريليونات دولار.

لكن بالنظر إلى سوق الأسهم، فإن حجم الأموال التي تدار في الشركات المدرجة علنا تزيد عن 20 تريليون دولار -لاحظ تطور الأرقام-، بينما يقفز الرقم إلى 38 تريليون دولار عند الحديث عن سوق السندات بما فيها ديون الشركات والحكومات المحلية.

أما فيما يخص أدوات الائتمان التي تشمل الرهون العقارية، والسندات المضمونة وغيرها يقترب الرقم من 59 تريليون دولار، فيما يتضخم بشكل كبير إلى 220 ترليون دولار في سوق المشتقات المعقد بين البنوك والمؤسسات المالية الكبرى.

وللوهلة الأولى فإن الكمية الأكبر من الأموال داخل النظام المالي متواجدة في "ديون رقمية" أو ائتمان، بينما الأموال النقدية الملموسة لا تتجاوز 1% تقريبا.

وفي النهاية إذا حاول "المتحفزون" لإلغاء الأموال العينية سرد المزايا من تقليص تكاليف الإدارة داخل بنيان التعاملات المالية، والقضاء على التهرب الضريبي، والسيطرة على الأنشطة غير القانونية، والأهم تآكل الاقتصاد الأسود وتقلص دوره تظل هناك علامات استفهام بلا صدى بإجابات معقولة.

وتبقى الإشارة إلى أن هذا التحول يعني ضرب النظام الرأسمالي ذاته في مقتل، فأنت حر في التصرف في أموالك ولست كذلك في الوقت نفسه، وفرضية اقتصاد السوق تصبح على المحك، أنه تقويض بشع لحرية الاستهلاك والتصرف في الثروة الشخصية.

وربما يدفع هذا -حال تطبيقه- البشر إلى العودة بقوة لحيازة الذهب والفضة كمعيار حقيقي لتقدير القيمة ومخزن تقليدي أصيل لها بعيدا عن سلطوية الحكومات والبنوك المركزية التي تحاول بناء نجاحاتها في إنعاش الاقتصاد الحقيقي على حساب الثروات الشخصية، وليس نموًا عضويًا حقيقيًا.


 

مواضيع ذات صلة :