آراء وأقلام نُشر

البنوك المركزية وخطورة شَغْلِها عن مهامها!!

تتولى البنوك المركزية حراسةَ النقود التي تمثل شريان حياة الرأسمالية، وتؤثر إجراءاتها على أجور ومدخرات الناس وعلى قدرتهم على الاقتراض وأسعار القروض، كما تحدد الاتجاه العام لمسار الاقتصاد، وسواء كنت عاملا أو معاشيا (صاحب راتب تقاعد) أو مدَّخِرا أو مقترضا فإن قراراتها تؤثر عليك.

البنوك المركزية وخطورة شَغْلِها عن مهامها!!

قبل 30 عاما وبعد ارتفاع التضخم في العالم الغني إلى رقمين عشريين (10% فما فوق) تم تسخير هذه السلطات لهدف وحيد هو الحفاظ عل استقرار الأسعار، ومُنِحَت معظم البنوك المركزية تفويضاتٍ صارمة وجُعِلَت مستقلة عن تدخلات الساسة الساعين وراء أصوات الناخبين.

بدا لبعض الوقت أن هذه السياسة الحاذقة دحرت شبح التضخم تماما، فأهداف البنوك المركزية صاغت توقعات ارتفاع الأسعار في كل مكان، في أمريكا ومنطقة اليورو وبريطانيا وألمانيا واليابان تراجع متوسط التضخم إلى 2.1% سنويا في الفترة بين 1990 و2007 من 8% في أعوام السبعينات.

قبل تفشي جائحة كوفيد-19 كان مصدر القلق الكبير يتمثل في الانخفاض المفرط وليس الارتفاع المفرط لمعدل التضخم.

لكن اليوم يواجه النظام الذي أعِدَّ لمحاربة التضخم فشله الأكثر لفتا للانتباه حتى الآن، فالتضخم عاد بقوة مدفوعا بتصاعد أسعار موارد الطاقة وارتفاع الأجور وأعطال سلاسل التوريد.

في أمريكا ومنطقة اليورو ارتفعت الأسعار الاستهلاكية إلى معدل سنوي تعدَّى 7% في مارس. وهذه أسرع وتيرة ارتفاع لها على مدى عقود، كما انخفض العرض في أسواق العمل بقدر غير مريح في بلدان عديدة، فأعداد الوظائف الشاغرة تزيد عن العدد المتاح من الباحثين عن عملٍ لشغلها.

حتى بنك التسويات الدولية وهو البنك المركزي للبنوك المركزية يحذر من أن العالم ربما على وشك الدخول في حقبة تضخمية جديدة، ويتدافع واضعو السياسات النقدية في بلدان العالم الغني للتعامل مع هذا الوضع الجديد.

يأتي هذا التهديد لصِدقية البنوك المركزية بعد ازدياد مهامها وعدم اقتصارها على مجرد محاربة التضخم. ففي الفترة التي تلَت الأزمة المالية في2007 - 2009 تعززت سلطاتها التنظيمية، وفي أثناء الجائحة تدخلت في سلسلة عريضة من أسواق الأصول بشراء السندات الحكومية بل حتى بإقراض الشركات والحكومات مباشرة.

وبعد اطمئنانها إلى هدوء التضخم قبل الجائحة تحولت البنوك المركزية إلى صائغة سياساتٍ لكل الأغراض، واتجهت إلى حل المشاكل الهيكلية من شاكلة اللامساواة والتغير المناخي، لكن الخطورة مع عودة التضخم أن تعرقل هذه الأهداف الجديدة البنوك المركزية أو تشغلها عن أداء مهمتها المركزية المتمثلة في ترويضه.

لقد تمددت سلطات البنوك المركزية وانكمشت على مرِّ الزمان، خصوصا بعد الأزمات.

أنشئ مصرف ريكسبانك السويدي وهو أول بنك مركزي في عام 1668 «للمحافظة على القيمة العادلة والصحيحة للنقود المحلية». وتأسس بنك انجلترا في 1694 لتمويل الحرب ضد فرنسا، أعقب ذلك ظهورُ البنوك المركزية الأخرى، لكن تأسيس بنك الاحتياط المركزي تأخر حتى عام 1913.

قادت سلسلة من نوبات الذعر المالي في القرن التاسع عشر البنوك المركزية إلى أن تكون مُقرِض المَلاذ الأخير وعلى استعداد لدعم النظام المصرفي عند وقوع أزمة، ولضمان الثقة في النقود ربطت معظم هذه البنوك عملاتها بالذهب.

إبان ركود ثلاثينات القرن الماضي انهار معيار الذهب وتلطخت سمعة البنوك المركزية، ترتب عن ذلك خضوعها (استسلامها) للحكومات، ففي أثناء الحرب العالمية الثانية أبقت البنوك المركزية على تكاليف الاقتراض العام عند مستوى منخفض، ودخل العديد منها في مجال السياسة الصناعية.

وفي بلدان الاقتصادات الصاعدة صارت البنوك المركزية أشبه ببنوك التنمية الوطنية، (موَّل فرع للبنك المركزي المكسيكي إنشاء المنتجعات السياحية في كانكون.)

لكن مع تصاعد التضخم في أعوام الستينيات والسبعينيات تحوَّل المدُّ لصالح منح البنوك المركزية استقلالها.

في أمريكا اتفق بنك الاحتياط الفيدرالي ووزارة الخزانة على أن يكف البنك المركزي عن تحديد سقف عائدات السندات الحكومية، وكشف بنك الاحتياط بقوة عن استقلاله في أوائل الثمانينات عندما استثار بول فولكر انكماشا لترويض التضخم.

مُنِحَت البنوك المركزية استقلالها وأهدافا تتعلق بضبط التضخم، حدث ذلك أولا في البلدان الغنية ثم لاحقا في العديد من بلدان الاقتصادات الصاعدة. لقد أضحت هذه البنوك الآن مستقلة في معظمها باستثناء بنك الشعب الصيني.

لماذا يتضخم دور البنوك المركزية مرة أخرى؟ أحد أسباب ذلك التدهور المستمر في أسعار الفائدة مع ارتفاع المدخرات العالمية المرغوبة، وهو ما جعل إحياء وتنشيط التضخم بعد الأزمة المالية العالمية أشد صعوبة. في عام 2000 كان سعر الفائدة المعياري لبنك الاحتياط الفيدرالي حوالي 6%، واليوم يتراوح هذا المعدل بين 0.25% و0.5%، وعلى الرغم من أن البنك المركزي الأمريكي بدأ في رفع أسعار الفائدة يتوقع المستثمرون وصول هذه الأسعار إلى ذروتها فقط عندما يبلغ معدلها 3.1% خلال فترة عامين.

في سعيها لإحياء التضخم حاولت البنوك المركزية استخدام كل أنواع الأدوات النقدية، في البلدان الغنية بدأ العديد من هذه البنوك في شراء السندات الحكومية لخفض أسعار الفائدة في الأجل الطويل، اشترى البنك المركزي الأوروبي الأوراق المالية التي تصدرها الشركات ودعَمَ الإقراض المصرفي للعائلات ومؤسسات الأعمال، وذهب بنك اليابان إلى أبعد من ذلك بشراء صناديق المؤشرات المتداولة في البورصات والوعدِ بالإبقاء على معدل عائدات السندات الحكومية لمدة 10 أعوام عند 0.25%.

سبب آخر لتعاظم دور البنوك المركزية وهو الاهتمام الجديد بالاستقرار المالي بعد فترة من التجاهل، قادت إجراءات تنظيم البنوك الأشد صرامة إلى ظهور المؤسسات الوسيطة غير المصرفية في سلسلة من أسواق الائتمان.

وعندما حلَّت الأزمة توجب على البنوك المركزية بسط الاستقرار في هذه الأسواق، أعاد نقص السيولة غير العادي الذي تسببت فيه إغلاقاتُ الجائحة البنوكَ المركزية مجددا إلى مجال تخصيص الائتمان، وسَرَّع التحولُ التكنولوجي تدهورَ النقود المادية التي غرست في الماضي الثقةَ في البنوك المركزية، قاد ذلك البنوك إلى دراسة تحويل أوراق البنكنوت التي تزود بها المستهلكين إلى نقود افتراضية (رقمية).

السياسة سبب آخر لاتساع نطاق مهام البنوك المركزية. إحدى علامات ذلك أن تعيين محافظي بنك الاحتياط الفيدرالي أصبح محفوفا بقدر أكبر من التوتر منذ الأزمة المالية.

وفي مواجهة المشاكل الكبيرة والعويصة مثل التغير المناخي واللامساواة يلتفت الوزراء والناشطون إلى ميزانيات البنوك المركزية الضخمة بأمل استخدامها لتحقيق أهداف «خضراء» أو مفيدة اجتماعيا، ويتحدث مسؤولو البنوك المركزية كثيرا جدا عن مثل هذه القضايا.

كما أجبر تصاعد التوترات الدولية بعض البنوك على الذهاب إلى أبعد من الإدارة الفنية للمخاطر عند إدارة احتياطيات النقد الأجنبي والدخول في مجال الجغرافيا السياسية.

تبنت بلدانُ اقتصاداتٍ صاعدة عديدة استهدافَ التضخم. (استهداف التضخم بحسب موسوعة انفستوبيديا استراتيجية للبنك المركزي يحدد بموجبها معدلا معيَّنا للتضخم كهدف له ويعدِّل سياسته النقدية لتحقيقه، القصد من هذه الاستراتيجية الحفاظ على ثبات الأسعار، لكن بعض أنصارها يعتقدون أنها أيضا تدعم النمو والاستقرار الاقتصادي - المترجم).

بذلك تتخلى هذه البلدان عن أدوار التنمية وتتمتع بمستوى تضخم أدنى وأقل تقلبا، لكنها تشدِد قبضتها على الأسواق بالنظر إلى قابلية تأثرها بتحركات سعر الصرف والتدفقات الرأسمالية إلى الخارج، وتظل هنالك بعض آثار السياسة الصناعية القديمة مثل حصص الإقراض المصرفي للمزارعين أو المقترضين من سكان الريف في الهند.

يسعى بنك الشعب الصيني وراء عدة أهداف، وغالبا ما يكون ذلك بأمر الحكومة، وعلى الرغم من تحريره لمعدلات الفائدة بعض الشيء، إلا أنه يعتمد بشدة على إدارة كمية الائتمان وليس على سعره، ويدفع البنوك (التجارية) لإقراض مقترضين مفضَّلين ومحدَّدين.

تواجه البنوك المركزية ضغوطا للمزيد من الإسهام في خمسة مجالات هي: التدخل في الأسواق المالية ومعالجة اللامساواة ومكافحة التغير المناخي واستحداث العملات الرقمية والتفاعل مع قضايا الجغرافيا السياسية، كل واحدة من هذه المجالات تمثل تحولا مهما في الأسواق والاقتصاد، لكن تخاطر كل واحدة منها أيضا بدفع البنوك المركزية إلى التوغل أكثر في السياسة، وسيكون ثمن ذلك فقدانها التركيز (على أهدافها الأصلية).

عندما يكون التضخم منخفضا قد يبدو اتساع نطاق الدور الذي تلعبه البنوك المركزية غير مؤذٍ، لكن هذه البنوك الآن اصطدمت بحقيقة ارتفاع التضخم، والخطورة هي أنها مع كثرة الأهداف المكلفة بها ستفشل في أداء رسالتها الأكثر أهمية.

 

الإيكونومست- راشانا شانبهوج - ترجمة - قاسم مكي

 


 

مواضيع ذات صلة :